فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: فأصل الإيمان لصلاح الخلافة، ولا يهتم الله سبحانه بأنك تؤمن أو لا تؤمن، ما دام منهج الخلافة قائمًا، وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر، فإذا كان الإيمان يُربّي الإنسان على ألاّ يفعل إلا خيرًا وصلاحًا، فالكافر لابد وأن يستفيد من هذا الصلاح. وهل قال الشرع للمؤمن: لا تسرق من المؤمن؟ لا إنما أيضًا لا تسرق من الكافر. الخ، فالكل أمام منهج الله سواء.
وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها، ونعرف غير المؤمنين بها، ليعلموا أن الإيمان إنما يحمي مصلحة الناس جميعًا، إنها قوله تعالى: {إنَّآ أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الكتاب بالحق لتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئنينَ خَصيمًا واستغفر الله} [النساء: 105-106] يعني: إنْ خطر لك أن تكون لصالح الخائن، استغفر الله من هذا {إنَّ الله لاَ يُحبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثيمًا} [النساء: 107] ولو كان مؤمنًا به.
ولهذه الآية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين، وقد جاءت طعمة بن أبيريق- وكان مؤمنًا- وقال: يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد، وإذا بالدرع مسروق قد سرقه ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق، فكان على الدرع آثار الدقيق، فلما بحث ابن النعمان عن درْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته.
ثم جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم في أمره، فقصَّ عليه ما كان من أمر ابن أبيريق، وأنه وضعه عنده على سبيل الأمانة.
وعندها عَزَّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم، وأن يأخذها اليهود ذلّة في حَقّهم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدير الأمر في رأسه، فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة، وإنْ حكم للمسلم كانت عيبًا وسُبَّة في الدين، فأسعفه ربه بهذه الآية: {إنَّآ أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الكتاب بالحق لتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئنينَ خَصيمًا} [النساء: 105] فقال: بين الناس لا بين المؤمنين فحسب.
ومعنى {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئنينَ خَصيمًا} [النساء: 105] البعض يقولون: لا تخاصم الخائن حتى لا يضطهدك، إنما المراد: لا تكُنْ خصيمًا لصالحه. {واستغفر الله} [النساء: 106] إنْ طرأتْ عليك مسألة الإسلام وصورته بين غير المسلمين؛ لأن الله في مبدأ الإصلاح لا يحب كل خوَّان أثيم.
ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية، وعلموا أن الله تعالى عدل الحكم للمؤمنين، وأعلنه لرسول الله، وقرر أن الحق هو الحق، والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن الإسلام هو الدين الحق ولأقبلوا عليه، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عادى ذميًا فأنا خصيمه يوم القيامة».
لأنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته، أو في عرْضه، أو في ماله لصارتْ حجة له في ألاَّ يؤمن، وله أنْ يقول: إذا كان هذا هو حال المؤمنين، فما الميزة في الإسلام حتى أعتنقه؟ بل من مصلحتي أنْ أبتعد عنه، لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى الإسلام، وجعلته يُؤنّب نفسه ألاَّ يكون مسلمًا.
لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن سيدنا إبراهيم- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- جاءه رجل فاشتمَّ منه أنه غير مسلم، فلما سأله قال: أنا مجوسي فردَّ الباب في وجهه، فانصرف الرجل، وإذا بإبراهيم- عليه السلام- يتلقى الوحي من الله: يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيّفه لأنه على غير دينك، وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي.
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه، فقال الرجل: وماذا جرى لقد طردتني ونهرتني منذ قليل؟ فقال: إن ربي عاتبني في أمرك، فقال الرجل: إنَّ ربًا يعاتب أنبياءه بشأن إعدائه لحقيق أن يُعبد. لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله.
إذن: نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب الإيمان، وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت مطمئن أنه إله حق، فلا يهم بعد ذلك أنْ تؤمن أو لا تؤمن المهم قاعدة الصلاح في الكون وفي حركة الحياة؛ لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه، كأن المراد بالإيمان العمل {وَمَنْ عَملَ صَالحًا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] لأنه لا يعمل صالحًا إلا إذا كان مؤمنًا.
ونلحظ هنا أن الآية تتحدث عن صيغة المفرد: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ وَمَنْ عَملَ صَالحًا} [الروم: 44] ثم يتحول إلى صيغة الجمع {فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] ولم يقُلْ: فهو يمهد لنفسه، فلماذا؟
قالوا: لأن الذي يعمل الصالح لا يعمله لذاته، إنما له ولذريته من بعده، كما جاء في قوله سبحانه: {والذين آمَنُوا واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بهمْ ذُرّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] إذن: ساعةَ تكلم عن الإيمان جاء بالمفرد، وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع.
كما أن العمل الصالح يأتي من ذات الإنسان، ويستقبله هو من غيره، وكلمة من هنا تصلح للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية، وتحل محلَّ جميع الأسماء الموصولة تقول: من جاءك فأكرمه، ومَنْ جاءتك فأكرمها، ومَنْ جاءاك فأكرمهما، ومَنْ جاءوك فأكرمهم.
الخ. كذلك في هذه الآية استعمل مَنْ للدلالة على المفرد، وعلى الجمع.
وتأمَّل قوله تعالى: {فَإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلّمُوا على أَنفُسكُمْ} [النور: 61] وهل يُسلّم الإنسان على نفسه؟ قالوا: نعم لأن المؤمنين شيء واحد، إذا سلَّمْتَ على أحدهم فكأنك سلَّمت على الجميع، وأيضًا إذا قُلْت لصاحبك السلام عليكم يردُّ عليك: وعليكم السلام، فكأنك سلَّمْتَ على نفسك.
ومعنى {يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] مأخوذة من المهْد، وهو فراش الطفل، والطفل لا يُمَهده ولا يُسوّيه ويُهيّئه، ولابد له من صدر حنون يُسوّي له مهده، ويفرشه ويُعده، فكأن الذي يعمل الصالح في الدنيا يُمهّد لنفسه فراشًا في الآخرة، كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد الله بن الحسين يقول: العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه، كما يمهد الخادم لأحدكم فراشه.
لذلك سبق أن قلنا: إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدّخر لهم في الباقية، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة، وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها فقال لها: «ماذا صنعت بالشاة؟» فقالت: ذهبتْ كلُّها إلا كتفها، يعني: تصدَّقَتْ بها إلا كتفها، فقال سيدنا رسول الله: «بل، بقيت كلها إلا كتفها».
وفي حديث آخر: «يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما لبسْتَ فأبليتَ، أو أكلتَ فأفنيتَ، أو تصدَّقْتَ فأبقيت».
والإمام علي رضي الله عنه يسأله أحدهم: أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام: الجواب عندك أنت، فقال: كيف؟ قال: هَبْ أنه دخل عليك شخص بهدية، وآخر يطلب منك صدقة فلأيّهما تبشُّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة فأنت من أهل الآخرة.
ذلك لأن الإنسان يحب ما يعمر له محبوبه، فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له، وإنْ كان من أهل الآخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته.
ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لأنفسهم: {ليَجْزيَ الذين آمَنُوا}.
وذكر هنا الإيمان فقال: {ليَجْزيَ الذين آمَنُوا} [الروم: 45] ثم {وَعَملُوا الصالحات} [الروم: 45] حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يُغني عن الإيمان. وهذه مسألة شغلتْ كثيرًا من الفلاسفة، يقولون: كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات لا يُجازى عليها؟
نقول له: أُجر ويُجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا؛ لأنه لم يعمل لله، بل عمل للشهرة وللصيت، وقد أخذ منها تكريمًا وشهوة وتخليدًا لذكْراه وأقيمت لهم التماثيل. إلخ، أما جزاء الآخرة فلمَنْ عمل العمل لوجه الله خالصًا.
والقرآن يُنبّهنا إلى هذه المسألة يقول: إياكم أنْ تُغَشُّوا بمن يعمل الأعمال للدنيا: {وَقَدمْنَآ إلى مَا عَملُوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23].
وجاء في الحديث: «فعلتَ ليُقال وقد قيل» نعم بنيت مسجدًا، لكن كتبت عليه: بناه فلان، وشرَّف الافتتاح فلان. الخ فماذا تنتظر بعد ذلك، إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى، كما جاء في الحديث «ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه».
فقوله تعالى: {ليَجْزيَ الذين آمَنُوا} [الروم: 45] يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحًا بحقٍّ يفيد صاحبه في الدنيا، لكن لا يفيده في الآخرة إلا أن يكون صادرًا عن إيمان بالله، ثم يربط الإيمان بالعمل الصالح حيث لا يغني أحدهما عن الآخر.
وقوله تعالى: {من فَضْله} [الروم: 45] أي: تفضُّلًا من الله، حتى لا ينخدع أحد بعمله، ويظن أنه نجا به، وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون: مرة يقول القرآن {من فَضْله} [الروم: 45] ومرة يقول: {ادخلوا الجنة بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] أي: أنها حق لكم بما قدَّمتم من عمل، فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من الله؟
ونقول: العمل الذي يطلبه الله تكليفًا من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على الإنسان، ولا يستفيد الله منه بشيء؛ لأن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق.
لذلك قال في الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر، ذلك أنّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كُنْ فيكون».
ويقول سبحانه: {مَا عندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عندَ الله بَاقٍ}.
[النحل: 96].
إذن: فالأعمال التكليفية لخير الإنسان نفسه، وإنْ كانت في الظاهر تقييدًا لحريته، فهو مثلًا يريد أنْ يسرق ليزيد ماله، فنأخذ على يديه، ونمنعه ونقول له: تنبَّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد، ومنعنا الناس جميعًا أنْ يسرقوا منك، فأنت إذن المستفيد من منهج الله، فلا تنظر إلى ما أخذه منك التكليف، ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.
وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت، فإنْ أثابك الله عليه بعد ذلك فهو فضل من الله عليك، كما تقول لولدك مثلًا؛ إنْ تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق، فتكون الجائزة بعد ذلك فضلًا.
كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أنْ يتقن عمله، وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع أننا المستفيدون منه.
ويقول سبحانه: {يَوْمَئذٍ يُوَفّيهمُ الله دينَهُمُ الحق} [النور: 25] فجعله حقًا عليه سبحانه، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47].
ولو بحثنا كلمة حق فلسفيًا لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقًا لك إلا إذا كان واجبًا على غيرك، فحقُّك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي مُوجبًا فمَنْ أوجب على الله؟ لا أحد؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه.
إذن: فالحق الذي جعله لك تفضُّلًا منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقًا، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقًا واجبًا، له أن يطالب الورثة به شرعًا؛ لأن المورّث تفضَّل وجعله حقًا له.
ثم يقول سبحانه: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} [الروم: 45] نلحظ في الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذكْر الكافرين هنا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، كأنه يقول له: تعال إلى الإيمان لتنال هذا الجزاء.
ومثال ذلك- ولله المثَل الأعلى- رجل عنده ثلاثة أولاد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته، فجاء آخر العام ونجح اثنان، وأخذ كل منهما هديته، وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان مثل أخويْه.
وكذلك الحق سبحانه لا يحب الكافرين؛ لأنه يحب أن يكون الخَلْق جميعًا مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهم خلْقته وصَنْعته، وهل رأيتم صانعًا حطم صنعته وكسرها، إذن: فالله تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.
وجاء في الحديث القدسي: «قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسَفًا على ابن آدم، فقد طَعم خيرك، ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم، فقط طَعم خيرك ومنع شكرك. فماذا قال الرب الخالق للجميع؟ قال: دعوني ومن خلقتُ، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم».
لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض، ويضرب لنا سيدنا رسول الله مثلًا لتوضيح هذه المسألة فيقول: «لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة».
فالله لا يحب الكافرين لأنهم لم يكونوا أهلًا لتناول هذا الفضل، وما ذاك إلا لأنه سبحانه مُحبٌّ لهم حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}.
كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم.
و{الله الذي خلقكم} مبتدأ وخبر.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {الذي خلقكم} صفة للمبتدأ، والخبر: {هل من شركائكم} وقوله: {من ذلكم} هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه: من أفعاله. انتهى.
والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطًا إذا كان أشير به إلى المبتدأ.
وأما {ذلكم} هنا فليس إشارة إلى المبتدأ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى، وخالفه الناس، وذلك في قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن} قال التقدير: يتربصن أزواجهم، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين، فحصل به الربط، كذلك قدر الزمخشري {من ذلكم} من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ.
وقال الزمخشري أيضًا: هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أندادًا له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئًا، قط من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غير موضعها، لأنها ظرف للماضي، وهنا جعلها معمولة ليفعل.
وقال الزمخشري أيضًا: ومن الأولى والثانية، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم؛ فمن الأولى للتبعيض، والجار والمجرور خبر المبتدأ؛ ومن يفعل هو المبتدأ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام، التقدير: من يفعل شيئًا من ذلكم، أي من تلك الأفعال.
وقرأ الجمهور: {يشركون} بياء الغيبة؛ والأعمش، وابن وثاب: بتاء الخطاب، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر.
وقال الحسن: وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات، ونزول رزايا، وحدوث فتن، وتقلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر.
وقال ابن عباس: {الفساد في البر} القطاع فتسده.
وقال مجاهد: {في البر} بقتل أحد بني آدم لأخيه، وفي البحر: بأخذ السفن غصبًا، وعنه أيضًا: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار.
وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور، والبحر: المدن، جمع بحرة، ومنه: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ويؤيد هذا قراءة عكرمة.
والبحور بالجمع، ورويت عن ابن عباس، وكان قد ظهر الفساد برًا وبحرًا وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الظلم عم الأرض، فأظهر الله به الدين، وأزال الفساد، وأخمده صلى الله عليه وسلم.
وقال النحاس: فيه قولان، أحدهما: ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر، أي في مدن البحر، مثل:
{واسئل القرية} أي ظهر قلة العشب، وغلًا السعر.
والثاني: ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز، وقيل: إذا قل المطر قل الغوص، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر.
وقال ابن عباس: إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
{بما كسبت أيدي الناس} أي بسبب معاصيهم وذنوبهم.
{ليذيقهم} أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بها جميعًا في الآخرة.
{لعلهم يرجعون} عما هم فيه.